المسيح قام بالحقيقه قام
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

القلق

اذهب الى الأسفل

القلق Empty القلق

مُساهمة من طرف the gospel الأحد 16 مارس 2008 - 21:43

أنقل لكم - إخوتي - هذا المقال الذي أتحفنا به - كعادته - الأب الفاضل بسام آشجي من موقع " كنيسة القديسة تريزا " في حلب.... أرجو لكم به كل الفائدة......


القلق.. لماذا؟!
الأب بسام آشجي

منذ أعوام عدّة، وضمن الأحاديث اللاهوتية لجمعيّة التعليم المسيحي بحلب، قدَّمتُ حديثاً يشبه تساؤلات اليوم، وكان الحديث تحت عنوان: "القلق.. لماذا؟.." وتفاجئنا جميعنا في تلك الأمسية من العدد الكبير، الذي جاء ليستمع إلى "القلق.. لماذا.." لماذا؟!.. لأن الجميع كانوا متلهِّفون للحل! ظنَّ بعضهم أنه في نهاية الحديث سوف يمتلك وصفة فعَّالة للتخلص من القلق!.. وبعضهم تتبع الحديث بشغف المترقب، الذي ينتظر ما يريحه.. هناك من جاء، وفي نيَّته، أن يفسد كلَّ كلمة تقال، لأنه، بحسب اعتقاده، لا خلاص من القلق. المهم، وكما توقعت آنذاك، أن موضوعاً كهذا، يخص الكثير من البشر إن لم نقل جميعهم. لذلك أتشجع اليوم وأقدِّمه ثانية، ربما يجد الكثيرون فيه همسات إجابة لصدى تساؤلاتهم.

أستعرض أولاً إشكالية القلق عند الإنسان، خصوصاً في عالمنا المعاصر. ثم أتأمل طرح الكتاب المقدَّس لهذه المسألة، وحاجة الإنسان من خلالها إلى "الخلاص". وأخيراً أدعوكم لتلمُّس موقف يسوع من القلق في معاناة الآخرين، وأيضاً في معاناته الشخصية له. لن نتوَّصل إلى "وصفة" تزيله أو تخفِّف منه. ولن ننتهي تماماً من السؤال: "لماذا؟.." ربما تتغيَّر صيغة السؤال. ولكن حتماً، وبنعمة الله، سنكتشف في إيماننا "الإنجيل" بشرى سارّة جداً تُغبِّط حياتنا في عمق أشكال ومضامين وواقع قلقنا.

القلق علامة الحياة:

منذ أن يولد الإنسان يصرخ مُعبِّراً عن حالة القلق التي يختبرها للمرّة الأولى. كأنه كان في سلام وانسلخ عنه. ولكنه سرعان ما يعود إليه، ولو نسبياً، فيشعر مجدَّداً بالأمان حيث يُحاط بالعناية والحنان. وتتوالى صرخات القلق عنده في مختلف مراحل حياته، كأنها ضريبة نموِّه وبناء شخصيته. فحين يُفطم يقلق. وحين يمشي يقلق. وحين يخرج من رحم بيته إلى المجتمع، حيث المدرسة والوجوه الجديدة، يقلق، وإن كان ذلك سيبدو له فيما بعد محبباً لأن الإنسان السوي يفضل عموماً الاستقلالية. ولعلَّ مرحلة المراهقة تعبِّر جلياً عن هذا الواقع القلِق للحياة. فالمراهق هو الإنسان الذي يبدأ رويداً رويداً تحمُّل مسؤولية الحياة. فهو صادق في أغلب الأحيان حين يعبِّر عن مشاعره، الإيجابية منها والسلبية. وما أعنف صرخات القلق عند بعض المراهقين! كم يدفعون غالياً ثمن نضجوهم. وهكذا، يدخل الإنسان شيئاً فشيئاً في واقع الحياة الصلب، أو في حتميات الكون والتاريخ. فتظهر الحياة، لولا طقوسها وعاداتها ووسائل الحضارة فيها، قاسية عنيفة، تسبب له الشعور بالقلق والاضطراب. ورغم كل ما تحقق من تطور، على صعيدي العلوم التكنولوجية والإنسانية، لابد لأي إنسان واقعي أن يكتشف أنه أمام صراع حقيقي مع الحياة. فمرّةً يجد نفسه وحيداً لا يشعر به أحد. وأخرى يتعثر باضطرابات نفسية لا يعرف سببها، حيث المكبوت فيه، في لا وعيه الإنساني، يسيِّرُ تصرفاته، فيشعر بانعدام حرية أحب أن يتمجد بها. وكم هو قاسٍ ومؤلم عليه حين يصطدم بمحدوديته: إنه لا يستطيع أن يفعل ما يريد، ولا يحقق ما يرغب، ولا يكون ما يشاء. يطمح إلى المطلق، ويجد نفسه أسير جسد وعقل لا حول ولا قوة لهما، مقيدين بحدود الزمن والمكان. يرفض أن يكون إلا مميزاً، ولا يحب، بذات الوقت، أن يظهر شاذاً عن غيره. يرغب في إعلان أمجاد ماضيه ويقلق ألا تنكشف كبواته. ويقلق أيضاً لمستقبله، كالاختيارات الكبرى، العمل والزواج والثقة بالآخرين. أو الالتزام بخطوة جديدة تساهم في تغيير أو تعديل مسرى حياته. كما يقلق حين يسعى للوصول إلى هدف يحلم بتحقيقه أو إلى إنجاز يطمح بتنفيذه أو انتساب إلى جماعة يرى مكانه المناسب فيها. وقد يكون سبب القلق هو الآخرين حين يصدرون أحكامهم أو عدم تفهمهم . إن محدودية الآخر تقلقنا . وقلقه أيضاً يقلقنا.

قد يؤدي الشعور بالقلق عند البعض إلى حالة مرضية، لا نحب التوسع فيها، إذ هي من اختصاص الأطباء والمحللين النفسيين، ولكي نعطي القلق الطبيعي قيمة تميّز الإنسان السوي تدفعه إلى المشاركة مع الآخرين والطموح وتغذي عنده الإصغاء لهمسات الروح، إذ أننا، لا نزال كما في كل حين، "نئن في الباطن منتظرين التبني.. والروح أيضاً يأتي لنجدة ضعفنا.. ويشفع فينا بأنات لا توصف بما يوافق مشيئة الله (رو 8/ 22...).

قلق الإنسان المعاصر : قلقٌ وجودي..

يتحمل الإنسان المعاصر، رغم كل وسائل الحضارة وتطورها، قلقاً صعباً. فتتكاثر نداءات النجدة من الفشل والعزلة والمرض والاختيارات الهشة، وتتعالى أصوات الاستغاثة من اليأس، وفقدان المعنى، والشعور باللامعقول والفراغ. يقول الفيلسوف الوجودي الملحد جان بول سارتر: "إن الإنسان حماسة لا فائدة فيها.. فيولد بلا سبب، ويستطيل به العمر أو يقصر دون إرادته، ويموت بمحض الصدفة". ويشاهد ألبير كامو العبثية في حياة الإنسان. فهو كسيزيف، بطل الأسطورة، يحمل كل يوم صخرة الحياة، ويصعد بها إلى قمة الجبل، إذ يظن أن السعادة هناك، وما إن يصل إلى القمة حتى تتدحرج الصخرة إلى الأسفل، فيعود مجدداً للفعل ذاته، وتتدحرج الصخرة مجدداً، ويكرر هذا العمل إلى لانهاية دون جدوى، لن تستقر الصخرة على القمة أبداً! وبالتالي لن يصل الإنسان مهما فعل إلى ملء السعادة! وكما يقول فان كوخ: "لن ينتهي الشقاء".

ويعلن المجتمع المعاصر عن قلقه أمام تفشي المادية، وفقر القيم الإنسانية، والجوع للمحبة والسلام والعدالة، فيظهر الإنسان المعاصر متألماً من جشع الناس واستغلالهم وأنانيتهم. وسرعان ما يلملم جراحه ليكون هو الآخر كغيره يعامل الآخرين بالمثل، فيشئهم لخدمة مصالحه واستهلاكاته. وتتحيّد من مفرداته كلمات التعاون والمجانية والعطاء، يخافهم ويخافونه، يتجنبهم ويتجنبونه، فيظهر "الآخر، حسب تعبير سارتر، جحيماً".

وينصهر "القلق الجحيم" في بوتقة "البنى العليا" الحضارة المعاصرة، حيث التصارع من أجل التسلح وكل ما فيه من تفنن وتطور، فآلات الدمار تلغي المسكونة عدة مرات بلحظات. كذلك آفات التضخم المالي والانهيارات الاقتصادية، واستغلال الشعوب بعضها لبعض، وانحطاط الأخلاق العائلية، وتسويق السموم والمخدرات والدعارة، والحروب الإقليمية والدولية والأهلية، والاضطهادات والمشاكل العرقية والمذهبية، وتقوقع الإيديولوجيات، وانحراف الردات الأصولية، والتهجير وتغير التوزع الديمغرافي.

ويئن الإنسان قلقاً أمام الأمراض المتنوعة التي لا شفاء منها ويخاف الموت وقد تعددت مظاهره ويضطرب أمام الكوارث وهيجان الطبيعة. يقول هيدغر الفيلسوف الوجودي: "إن القلق الصادر عن الشعور بالموت والعدم هو قطعاً أشد قلقاً يعانيه الإنسان". قد لا يخيف الموت بحد ذاته، ولكن الشعور بالموت هو حقاً أصعب قلقٍ يعانيه الإنسان.

أمام مظاهر القلق هذه، يطرح السؤال : لماذا؟ ليجد عدة إجابات عنه عند الإنسان المعاصر، فيقال إن ذلك يسهم في نمو وتطور الإنسانية بحيث أن "القلق يحقق الانتقال من الإمكان إلى الواقع"، وهكذا تنتج البشرية إنجازاتها في التقدم والتطور، ولو كان الفرد فيها فحمة تحترق لمسير قطار نموها. أو ربما يقال أن القلق يساعد في تسويق منتجات الحضارة المعاصرة من تجهيزات حديثة ووسائل الراحة والرفاهية وابتكارات الاستهلاك.

في كل الأحوال، علينا أن ننتبه إلى القمح داخل الزؤان. نحن نفهم أن الإنسان إنما هو قلِق لأنه يبحث عن صورة كيانه. إذ "لا يستريح إلا حين يستقر في قلب الله"، كما يقول اغسطينوس المغبوط. هذه الاستراحة ليست فقط في "الأبدية"، إنما هي محطة لـ"الآن" أيضاً، كما لكل آن. كما يكشف ذلك الكتاب المقدَّس وخبرة يسوع المسيح.

القلق في خبرة الكتاب المقدَّس:

إن الكتاب المقدَّس هو خبرة الإنسان في علاقته مع الله، التي على ضوئها يحاول الكتَّاب الملهَمون أن يقدِّموا المعاني الإيمانية لمختلف مواقف الحياة، لتكون لنا بمثابة نماذج حقيقة تساهم في نضوجنا وتثبيت وتنمية إيماننا. وللقلق في الكتاب المقدّس معانٍ واختبارات حياتية عميقة، نقرأها وكأننا نقرأ واقعنا. فهو الكرب والضيق (لو22/44). الكآبة والطريق المسدود (هوشع13/8-22، حكمة11/25، لو21،25). هو تعبير عن الانسحاق والظلم (2كور4/8، 6/4و12). علامة الخوف والشدة (لو8/37). معاناة المرض (مت4/24، لو4/38).

لا يخشى الكتاب المقدَّس أن يطرح تذمر مواطنيه حول جميع مظاهر القلق المُتعبة، ليُحيطها بكمٍ من التساؤلات والاستفسارات عن السبب وعن كيفية معايشة واقعٍ كهذا ، وخصوصاً عن دور الله في هذه المعاناة. ولكن، هل من جواب؟..

1- القلق في العهد القديم:

رغم أن كتاب المزامير، وهو صلاة الكتاب المقدَّس، يعطي المكانة الأولى على صفحاته لتمجيد وحمد الله والثقة به وبعنايته التي تسهر على المؤمنين وتدافع عنهم (23،27،33،37،92،..)، لا يتأخر أيضاً في إعلان صرخات الاستغاثة ونداءات النجدة تعبيراً عن القلق الذي يُعانيه المصلّي. ونستنتج من ذلك أن هذه الصرخات والاستغاثات تقوّي الإيمان وتُثبت الثقة بالله وبمواعيده بأن يمنح سلاماً حقيقياً. وهي أيضاً تدعو لمراجعة الحياة وتقييم الأمانة لله (22، 107، 143، ..).

أما قلق الأنبياء في الكتاب المقدس فهو شهادات حيّة عن هذا الاختبار.

"لقد كان إيليا مثلنا، إنساناً خاضعاً للآلام" (يعقوب5/17)، أقلق آحاب والشعب بإعلانه غضب الله بسبب ابتعادهم عن عبادته (1ملوك16-18). ولكنه هو الآخر يقلق من وعيد إيزابل، فيهرب إلى البرية خائفاً من وجه الملكة التي حطَّم أصنامها. وفي البرية يفتقده الله بالسلام ويعتلن له "بالنسيم العليل" (1ملوك19/1-..). يظهر القلق هنا سبباً للعودة إلى الله بالتوبة واكتشاف ضعف الإنسان مهما امتلك من قوّة. وتبدو البرية هنا، حيث الصمت والفراغ، مكاناً مناسباً للإنسان لكي يصارع الحياة باحثاً عن السلام الحقيقي (أنظر: لو4/1-..).

لم يخشَ إرميا، ككاتب المزامير، أن يصرخ أمام وجه الله، ليعلن عن احتجاجه وقلقه تجاه تفشي الشر والخطيئة: "عادلٌ أنت يا رب، وإن حاججتك!.. لماذا ينجح طريق الأشرار؟.." (أرميا12/1). أيُّ سؤال يضع الغصة في حلوق الأبرار أمام صمت الله تجاه شرور الأشرار!؟.. ولكن هل يمكن لله أن يستعيد حرية إنسان لمجرّد إساءة استعمالها؟! (لو15/10-31).. وهو من يُطلع شمه على الصالحين والأشرار.

وما أصعب قلق ارميا حين يختبر الشك وقد كرس حياته كلها لخدمة الإيمان (أرميا 5/10-21). أن أعنف قلقٍ للمؤمن، دون شك، هو قلق الشك.

ها هو كتاب أيوب يجمع كل أشكال القلق البشري. فبعد حياة كريمة يعيشها أيوب البار، حيث كان له من كل مباهج الحياة، يفقد كل شيء. ويصاب بالمرض العضال، ويتخلى عنه ذووه وكل من حوله حتى زوجته. وتتهامس حوله تساؤلات التشكيك في برارته وإيمانه (32). فيصرخ متنهداً باسم جميع المتألمين دون سبب: لماذا؟!.. (10،19،21/7). فيأتيه الجواب: إن حكمة الله لا حدَّ لها، تفوق البحث. أي إنك لا تفهم معنى لآلمك، الله فقط يفهم. ولكي لا يبقى هذا السؤال معلقاً دون إجابة، يُختم الكتاب بأن يعيد الرب لأيوب مكانته، ويزيده ضعف ما كان عليه قبلاً (42/..). لو لا هذه الخاتمة لن نستطيع أن نفهم ألم أيوب وقلقه خارج المسيح "عبد يهوه" المتألم دون سبب. يتألم لأنه إنسان. ولأنه كذلك سيفتدي الإنسانية المتألمة بأن يرفعه الله وينهضه من أهوال الموت (أشعيا 53/1-00).

the gospel
Admin

عدد الرسائل : 1420
تاريخ التسجيل : 25/02/2008

https://elmase7kam.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

القلق Empty رد: القلق

مُساهمة من طرف the gospel الأحد 16 مارس 2008 - 21:44

2- القلق في الإنجيل:

نجد في الأناجيل حالات كثيرة من الشعور بالقلق، يحمل بعضها معانٍ جديدة، والبعض الآخر يعمِّق الاختبارات السابقة.

ها هي عذراء الناصرة تقلق من تدخل الله المفاجئ في تاريخها، ليغير مسار حياتها. فتكون مباركة بين النساء، ممتلئة من النعمة. تقلق من هذه البشارة فتسأل: "ما عسى أن يكون هذا..؟" (لو1/26-38)، وتستفهم عن أمر المولود القدوس، فتهدأ بسلام حين تدرك أنه ليس أمر غير مستطاع لدى الله. ويتواتر القلق في حياتها، وهي تهتم لكي ينمى ويترعرع في حياتها وحياة الإنسانية حضور الله القدوس في شخص يسوع المسيح، إلى أن يبلغ أوجه حين يجوز سيف في قلبها ساعة موته على الصليب.

ويعيش يوسف البار خبرة مشابهة من الاضطراب. فيصوره التقليد الايقونغرافي في حالة مستديمة من القلق. فإن كان السلام قد تغلغل إلى العذراء إذ تحرَّكت أحشاؤها بالمولود من الله، يعيش يوسف في حالة قلق مغبوط طيلة حياته عن سر هذا المولود متكلاً فقط على كلمة الله. ونشاهد على الصفحات ذاتها قلقاً مختلفاً تجاه الأحداث ذاتها. فهيرودس، هو الآخر يتفاجئ من حضور ملكوت الله. ولكنه يرفض أن يكون من مواطنيه بل على العكس يسعى لتدميره. فيقلق ويُقلق معه كل أورشليم (مت2/3).

إنَّ حضور الله في حياة الإنسان، يسبب القلق. إنه دعوة اختيار وحرية. يحترم الله عواطف الإنسان، لا بل يقدسها لتكون وسيلة للنمو في الحياة معه. أمام مبادرة الله نحو الإنسان لا بد من القلق. فإما أن يكون إيجابياً، ينمي فينا حياة القداسة، أو سلبياً، حين يكون ضد الله، نخسر فرصة تغلغل السلام الحق.

نشاهد أيضاً في الإنجيل قلق بطرس والتلاميذ على حياتهم بعد أن تركوا كل شيءٍ وتبعوا المسيح: "ماذا يكون لنا؟" يقولون (مت19/27). والرب بدوره يعدهم بفرح في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى.

المرضى وأقربائهم يقلقون. فالمرأة الكنعانية تتخلى عن كرامتها بسبب قلقها على ابنها لتشحذ له الشفاء (مت15/21-28)، وقائد المائة يسعى جاهداً ليزيل قلقه على ابنه المريض (يو4/46)، ويشتد قلق يائيروس خوفاً من موت ابنته (مر5/21-42)، وأعمى أريحا يصرخ طالباً الرحمة (مر10/46-52)، ومخلّع بيت ذاتا لا يعرف ماذا يريد (يو5/1-14)، ويقلق التلاميذ لأنهم لم يتمكنوا من شفاء الممسوس (مر10/46-56)، ولو كان يسوع حين مات لعازر لما مات تقول للرب أخت الميت القلقة (يو11/1-45). إن معظم معجزات يسوع هي علامات تؤكد حب الله لإنسان وسعيه لتخفيف آلامه وقلقه سعياً نحو سلامه الكامل والنهائي.

نرى في الإنجيل أيضاً نماذج حية حول قلق المستقبل. الشاب الغني يسعى إلى السلام في مستقبله، وكأنه يريد أن يقول حين جاء إلى يسوع: ماذا أعمل لأكون في مأمن من القلق في مستقبلي، والمستقبل عنده هو أيضاً الحياة الأبدية (مر10/17-27). ويأخذ ابني زبدى الموقف ذاته، كذلك بقية التلاميذ ومعاصري يسوع، حين يرغبوا في المجد (مت20/21-00). والمجد عندهم هو الخلاص من القلق. ويُصدموا جميعاً، كتلميذي عماوس (لو24/13-00)، من عدم تحقيق "المسيح" المنتظر لرغباتهم. لكي يُبقي لهم السلام، ولكن من نوعٍ آخر (أنظر: يو14/28).

قلق الخاطئين نموذجٌ آخر من الشعور بالقلق يقدمه لنا الإنجيل. فها هي المرأة التي سقطت في خطايا كثيرة تبكي على قدمي يسوع وقد فاض القلق من عينيها توبة وندامة (لو7/36-..). وتلك الأخرى التي أُمسكت بالجرم المشهود تنتظر حكم المعلم الذي يحررها من قلقها وحسب بل من خطاياها أيضاً: "اذهبي ولا تعودي للخطيئة" (يو 8/1-11). وما أشد قلق الابن الضال حين اشتد عليه العوز وقست عليه نتائج الخطيئة (لو 15/11-00). ويقلق أخوه أيضاً بفعل عدم شعوره بالبنوَّه. وكأن الإنجيل يريد أن يكشف عن أن الشريعة مهما كانت مريحة لابد وأن تُقلق، البنوَّة وحدها مدخل إلى السلام الحق.

الأحبار ورؤساء اليهود يقلقون، كهيرودس، خائفين على سلطانهم من الملكوت الجديد فيشكون يسوع على أنه مقلق للشعب (لو 23/6).

وأخيراً لا نستطيع فهم القلق في الكتاب المقدَّس ما نتعرَّف على قلق يسوع. فهو ككل البشر يجوع ويعطش، وتدمع عيناه أمام موت صديقه العازر (يو 11/1-00)، ويتحنن على أرملة نائين (لو7/11-17). ويتحسر قلقاً على استبداد الخطيئة والشر بالبشر (مت24/37، لو23/27-31). ويقلق مصلياً من أجل ثبات تلاميذه في فترة المحنة (يو17/1-00) ويأسف على مصير يهوذا (مر14/49).

إنَّ أشد قلق يعانيه يسوع هو في بستان الزيتون حين أخذ يعرق دماً (لو22/39-00): "إن نفسي حزينة حتى الموت!.. يا أبت، إن شئت فأصرف عني هذه الكأس ولكن مشيئتك لا مشيئتي". ربما قلق يسوع من الموت خبرة قوية جعلته يعي أكثر فأكثر معنى بنوته لله في عمق واقعه الإنساني. لعل ذلك يكون نهجاً لكل من أراد أن يتبعه (مر8/34).

نستخلص إذا ما تتبعنا الأناجيل الأربعة في روايتها لآلام الرب وموته، إن يسوع، على غرار كل إنسان، اكتشف محدوديته الإنسان: إنه يتألم ويموت. لقد أراد يسوع أن يشاركنا مغامرتنا البشرية: خوف وقلق وحزن وعزلة، ليمنحها المعنى الجديد بقيامته المجيدة . فيرفق كل قلق في الإنسان برجاء انتصاره على كل قلق.

إن قيامة المسيح هي حدث منفتح على واقع الإنسان (كلّ إنسان وكلّ الإنسان)، فهي لا تمنح قراءة جديدة للماضي والحاضر وحسب ، بل للمستقبل أيضاً، فموضوع رجاءنا هو استمرار الحياة بالله حيث الحق والعدالة وفيض الحب. يقول يسوع: "لقد أتيت لكي تكون لهم الحياة وتكون وافرة" (يو10/10). إن من يتبع الله يدخل حضور القيامة. والقيامة هي وفرة الحياة. فحقيقة الإيمان المسيحي تتلخّص بقول يسوع: "من أراد أن يتبعني، فليحمل صليبه، ويتبعني". لم يقل يسوع في هذه الدعوة: "فليحمل صليبي"، وقد عانى ما عاناه في صلبه ككل إنسان وأكثر، لأن الصليب هو واقع على كلّ إنسان، بل قال: "ليحمل صليبه”، ليقول مباشرة: "ويتبعني". أي يتبعني إلى القيامة، هذا هو تماماً معنى اتِّباعه. "عندما يشهد جميع المسيحيين بحياتهم للقيامة ينقلب العالم بأسره نحو الفرح والمشاركة والسلام والرجاء والإيمان ". فإن كنا نشترك مع كل البشر في واقع الصليب، علينا في اتّباع يسوع أن نشركهم في رجاء القيامة، في "وفرة الحياة". إذ لا يمكن فصل حقيقة الصليب عن سرِّ القيامة وإلاّ أصبحت الأمانة لله بؤساً والحياة معه جحيماً والموت نهاية.. وما عاد "الله محبة".

العبور من السؤال : القلق لماذا.. إلى السؤال : الرجاء كيف..

ربما استنتجنا ببساطة تحويل الإنجيل للسؤال: "القلق لماذا".. إلى السؤال: "القلق كيف".. وإليكم مثالاً إنجيلياً يعبر جلياً عن هذا التحويل: يسأل التلاميذ يسوع عن سبب عمى الأعمى بقولهم: "من خطئ أهذا أم والداه حتى ولد أعمى؟" (يو 9/1-00) كانوا يريدون أن يقولوا: لماذا ولد أعمى؟ لماذا هو قلق طيلة حياته بسبب عمى في ميلاده؟ وربما كانوا يتوقعون إجابة منهجية عن الشر والأسباب التي يأتي منها وعلاقته بالخطيئة ونتائج القلق فيه، كما فعل الكاتب في الصفحات الأولى للعهد القديم. أو ربما كانوا ينتظرون عظة عن حكمة الله وعدم استطاعة الإنسان فهم تلك الحكمة لكونه محدود والله مطلق، كما رأينا في قصة أيوب البار.. إلى ما لا نهاية له من تفسيرات متوقعة تدخل إطار الطريقة الشرائعية في العلاقة مع الله. لقد جاء الجواب غير ما يتوقع، وهذه هي دائماً منهجية الله، فطرقه التي ليست كطرقنا ومنهجياتنا، كما يقول أشعيا. يأخذ يسوع طيناً، يصنعه من تفتله، كأنه ينفخ، كالخالق، في التراب، ويطلى عيني الأعمى ويدعوه ليغتسل فيذهب ويغتسل فيعود بصيراً . نحن أمام واقع جديد. هناك حركة "إعادة خلق"، ترميم على مستوى الإنسان بكامله، لا فقط على مستوى تفكيره، أو إيمانه، بل الإنسان كاملاً سيظهر جديداً . لقد تحول السؤال هنا من لماذا؟ إلى كيف؟ ليأتي الجواب مؤكداً على منهجية العلاقة الوجودية مع يسوع المسيح نفسه، المصلوب والقائم والحي الحاضر أبداً. هذا الذي قلق في أبعاد القلق كاملةً، كما رأينا، يعرف كيف يمنح السلام لكل القلقين. إنها دعوة الرجاء التي قد تكون "شكاً" لمن لم يختبر حقاً المعنى الحقيقي لعلاقة الله بالإنسان . و"جهلاً" لمن لم يتمكن من اختبار المعنى الحقيقي للإنسان، وقيمة ارتباطه وجودياً بالله.

الرجاء نافذة الأبدية في الآن..

إن قلق التلاميذ بعد موت يسوع يشبه قلقهم حين كانوا في السفينة وحدهم حيث الأمواج تتلاطمهم إذ الريح مخالفة (متى 14/22..) ، يشبه كل مظاهر القلق التي يعيشها الإنسان. إن يسوع الذي يمشي فوق الأمواج، ولو كانت الريح مخالفة، هو نفسه يدخل القلوب وأبواب الأمل مغلقة ويدعوها إلى الرجاء، إن هذا الذي يأتي من الحياة الأبدية يطعم حياتنا بالرجاء الأكيد. لا يمكن أن نعيش الرجاء إلا بالاستجابة لدعوة القائم والحي. يقول بطرس: "يا رب، إن كنت إياه فمرني أن أذهب إليك على الماء"، كأنه يقول يا رب إن كنت أنت حي ومخلص أعطني أنا أيضاً أن أعيش بسلام فوق قلقي واضطراباتي. يستطيع بطرس أن يمشي على أمواجه طالما ينظر إلى يسوع، ولكنه يأخذ في الغرق حين ينظر الريح المخالفة. هناك علاقة جدلية بين السلام والنظر إلى يسوع. تماماً كما حدث لبطرس أيضاً حين نكر يسوع، وإذ بدأ ينظر إليه مجدد غرق بدموع توبته (لو22/61). لن يترك المسيح إنسانه يغرق طالما يهتف إليه : "يا رب، نجني..." إن الحقيقة هنا ليست مسألة تطرح على العقل بقدر ما تدعو الإنسان بكامله إلى الاختبار.

خاتمة

إن كنا نختبر القلق في حياتنا فلأنه واقع الإنسان، فهل نعيش الرجاء الحق ليكون واقعنا هو من إطلالات ملكوت الله في زمننا؟ إن واقع القلق هو محتوم لكل البشر، فهل نشاركهم في واقع الرجاء؟ هل نكون دعوة رجاء؟ إنها دعوة الحياة بالمسيح، التي يدعونا إليها "ذاك الذي في أيام حياته البشرية، رفع الدعاء والابتهال بصراخ شديد ودموع ذوارف، إلى الذي بوسعه أن يخلص من الموت، فاستجيب طلبه لتقواه. وتعلَّم الطاعة، وهو الابن، بما لقي من الألم. ولما جُعل كاملاً صار لجميع الذين يطيعونه علة خلاص أبدي" (عب5/6-10).

الأب بسام آشجي

the gospel
Admin

عدد الرسائل : 1420
تاريخ التسجيل : 25/02/2008

https://elmase7kam.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

القلق Empty رد: القلق

مُساهمة من طرف the gospel الأحد 16 مارس 2008 - 21:44

\لا تهتمّوا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب...\
\هاأنذا معكم كل الأيام ...\
\الرب راعيَّ ...\
= من المؤكّد أن القلق أمر واقع و لابد للإنسان أي إنسان أن يمرّ بهكذا تجربة . وأحياناً يعطي القلق نتائج إيجابية نتيجة الخوف من الفشل.و لكن هل علينا أن نقلق فعلاً؟ \ to be or not to be\ أن نكون مؤمنين فعلاً أو لا نكون , تلك هي المسألة :
-إن الإيمان الحق هو العلاج الناجع للقلق :نحن خراف المسيح , و هل تخشى الخراف من موضوع المأكل و المشرب و الملبس ووو؟ و إذا كان الرب معنا فمن علينا؟ بالإيمان استطاع بطرس أن يتخلًص من الخوف و القلق وسار على الماء . و بالإيمان استطاع توما أن يتخلًص من قلقه و ذهب للهند مبشّراً , و كذلك جميع الرسل و القديسين..
= أحبّائي: ربما نكون ضعفاء بسبب ( أو بحجّة ) طبيعتنا البشرية فلا بدّ أن يدخل القلق أو شيء منه إلى نفوسنا ولكن ليس علينا أن نعطيه الأولوية أو الأهمية الكبرى في حياتنا , فقط لنسلّم ذاتنا لله فهو أدرى بما نحتاج , و هو غير متطلّب للكثير:\أطلبوا أولاً ملكوت الله و برّه وهذا كلّه يزاد لكم \ .و إذا كنّا نحن البشر نحسن رعاية أولادنا و نحسن العطاء فكيف بالحري أبانا السماوي؟؟؟
-شكراً للقراءة ...
__________________

إذا كان الله معنا فمن علينا

the gospel
Admin

عدد الرسائل : 1420
تاريخ التسجيل : 25/02/2008

https://elmase7kam.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى